قراءة بلاغية لنص حماسيّ.
نقلا عن صفحة فايسبوك: دروس العربية لتلاميذ الرابعة آدابا.
يقول المتنبي مفتخرا :
عذيري من عذارى من أمـور *** سـكنّ جـوانـحي بـدل الخـدورو مبتسمات هـيجاوات عـصر *** عن الأسياف ليس عن الثغور.
ركـبـتُ مـشـمّـرا قدمي إلـيها *** و كـلَّ عُـذافِـر قَـلـِقِ الضفـور.
أوانا في بـيـوت البدو رحـلـي *** و آونـة عـلـى قـتـد الـبـعـيــــر
أعرّض للرماح الصم نحـري *** و أنصب حُـرَّ وجـهـي للهجير.
سنركز في هذا النص على المستوى البلاغي ( Les figures de style ) و في هذا المستوى من القراءة يبحث القارئ عما توسل به منتج النص من
أساليب بيانية و وجوه بديعية لأداء المعاني التي يريد تبليغها لمتلقي نصه. و من مراكز الاهتمام في قراءة النص الأدبي على هذا المستوى : الحقيقة و المجاز،
والمعاني الأصلية و المعاني البلاغية في الأعمال اللغوية ، و الظواهر الإيقاعية التي يتضمنها الخطاب .... و صلة كل ذلك بالمعاني و بمقاصد المؤلّف. فمن
المجاز في هذه الأبيات وصف الأمور بالعذرية ، و الهيجاوات بالابتسام ، وهذا من شأنه أن يصرف المعنى من الحب إلى الحرب ، و ينقل صورة الذات من
ذات عاشقة للجمال ، إلى ذات مسكونة بحبّ القتال . و هذا معنى كثير وروده في فخر المتنبي في مقدمات مدحياته كقوله :
ضروب الناس عشاق ضروبا *** و أعذرهم أشـفـهـم حـبـيــبا
وما سكني سوى قتل الأعادي *** فهل من زورة تشفي القلوبا
فقتال الأعداء قد مسّ شَغاف قلبه حتى ما أحب سواه . و لا شفاء من هذا الحب إلا بزيارة ساحات النزال ، حيث يكون لقاء الشاعر بحبيبه . و في هذه الأبيات التي
اخترنا شبكة من الكنايات اعتمدها الشاعر للبلوغ بالمعنى أقصى درجات القوة . و نذكر منها قوله في وصف رواحله التي يركبها لخوض مغامراته الصعبة
: << و كل عذافر قلق الضفور >> ، فالعذافر ( و العذافرة ) هي الناقة العظيمة القوية التي تقدر على طيّ المسافات البعيدة . و الضُّفور جمع ضفر و ضفير وهو
الحبل الذي يشد به رحل الناقة . و " قلق الضفور " كناية عن هزال الناقة و ضمورها لكثرة قطعها للصحارى . وهذا كله كناية عن كثرة ترحال الشاعر و ضربه في
البلاد طلبا للمجد . وهناك عبارة أخرى تؤدي هذا المعنى أحسن أداء ، وتعبر عنه بأوضح لفظ و هي قوله : " ركبت قدمي " . فركوب القدم كناية عن الفقر و الحاجة
إلى مركوب ، و كناية أيضا عن مضاء العزيمة الذي لا بد منه لبلوغ الغايات البعيدة . و الكنايات في هذه الأبيات كثيرة و كلها تقوم أدلة على قوة الشاعر و شجاعته
و حبه للقتال و تمرسه الطويل بالسير في الفيافي و القفار و الصبر على أخطارها و وهج هجيرها .