الشعر الحماسي في القرنين الثالث و الرابع للهجرة انتصار لمواقف وقيم.
هدف شعراء الحماسة فيما نظموا من شعر حماسي إلى الإشادة بمواقف جليلة ، و إحياء قيم عربية أصيلة ، وعطف القلوب عليها ؛ لأن الظروف التي مرّتْ بها الأمة
الإسلامية في تلك الفترة من تاريخها جعلت التمسك بتلك المواقف و الإيمان بتلك القيم من ضروريات البقاء في صميم التاريخ ، و الصمود في وجه الهجمات العاتية
التي كان الروم يشُنُّونَها على أطراف الإمبراطورية العبّاسية في المشرق و الخلافة الفاطمية في المغرب .
ومن أبرز المواقف و القيم التي انتصر لها شعراء الحماسة في تلك الفترة من تاريخ المسلمين :
*- الدفاع عن الأوطان و حمايتها من أطماع الغزاة . و هذه قيمة حربية أصيلة تردد ذكرها في الشعر العربي منذ الجاهلية ( الذود عن حمى القبيلة ثم عن بيضة الإسلام )
. وفي هذا المعنى يقول أبو تمام منوها بجهود أبي سعيد الثغري عامل العباسيين على أرمينية و سائر ثغور الروم في شمال سوريافي حماية الثغور و تحصين رقعة الخلافة
العباسية وطن المسلمين :
لولا جهاد أبي سعيد لم يزل -_- للثغر صدر ما عليه صدار
فالثغور محصنة بفضل جهاد أبي سعيد و حسن بلائه في صدّ هجمات الروم .
و في هذا المعنى أيضا يقول المتنبي مادحا سيف الدولة الحمداني و مشيدا بمنجزه العسكري في وقعة "الحدث " (قلعة على أحد الثغور الرومية ) التي كُتب له فيها النصر
على الروم وتحرير القلعة من قبضتهم بعد أن احتلوها و عاثوا فيها فسادا :
بناها فأعلى و القنا يقرع القنا -_- و موج المنايا حولها متلاطم
فتحرير القلعة منجز عسكري هام انشرحت به صدور المسلمين ، وكان حافزا للصمود و مواصلة الجهاد .
ويقول ابن هانئ في مدح المعز لدين الله بعد وقعة المجاز سنة 354هـ
تلك الجزيرة من ثغورك بُرْدَةٌ نور النبوة فوقها يتهلل
لم يبق فيها للأعاجم ملجأ يلجا إليه و لاجناب يؤهل .
فقد طهر جيش المعزّ أرض صقلية من الأعاجم وهي يومئذ معقل من معاقل الإسلام في البحر الأبيض المتوسط.
* - الحمية الدينية:
لقد رفع شعراء الحماسة الحرب ضد الروم إلى مرتبة الجهاد في سبيل الله ، لنصرة الإسلام ، ودحض جحافل الشرك التي كانت تناوئُ دين التوحيد و تسعى لتضييق
رقعة انتشاره في الشرق و الغرب ، لذلك عدّوا كل انتصار على الروم انتصارا للإسلام على الشرك . فهذا ابن هانئ يبرز المعز لدين الله في صورة حامي حمى
الدين بالجهاد و قد قعد عنه غيره من ملوك عصره:
يا ويلكم أفما لكم من صارخ - _- إلا بثغر ضاع أو دين عفا
هذا المعزُّ بن النبي المصطفى -_- سيذب عن حرم النبي المصطفى
و هذا أبو تمام يرى في فتك المعتصم بـ "عمّورية " إعلاءً لراية الإسلام ، و خَضْدا لشوكة الشرك ، وبعثا للأمل في نفوس المسلمين:
يا يوم وقعة عمورية انصرفت -_- منك المنى حُفَّلاً معسولة الحَلَبِ
أبقيت جد بني الإسلام في صعد -_- و المشركين و دار الشرك في صبب.
و أما المتنبي فجعل استرجاع سيف الدولة قلعة " الحدث " من أيدي الروم دفاعا عن الإسلام ضد الدهر الذي توالت مصائبه على المسلمين:
طريدة دهر ساقها فرددتها على الدين بالخطي و الدهر راغم .
* - الدفاع عن العصبية العربية:
في القرنين الثالث و الرابع للهجرة عرف المجتمع العربي هيمنة الأعاجم على دواليب الحياة السياسية و العسكرية و الثقافية ، و تقهقر العنصر العربي ، وهذا ما حدا
ببعض شعراء تلك الفترة - و لا سيما من كان منهم عربي الأصل – إلى الدفاع عن العصبية العربية ، والدعوة إلى إحياء القيم العربية الأصيلة كالحفاظ على العِرْض
و صوْن الشَّرَف ...و في ها السياق يقول المتنبي في مدح الأمير العربي سيف الدولة الحمداني:
تهاب سيوف الهند وهي حدائد -_- فكيف إذا كانت نزارية عربا ؟
فسيف الدولة أمير عربي يهابه الروم، ويرهب جانبه الأعداء لأنه ينتسب إلى العرب المشهورين بالشجاعة و إباء الضيم. و يقول أبو تمام في مدح المعتصم:
لبيت صوتا زِبَطْرِيًّا هَرَقْتَ له -_- كأس الكَرَى و رُضَابَ الخُرَّد العُرُبِ.
فالمعتصم خرج لفتح عمورية وتدميرها انتقاما لشرف امرأة عربية على حدود بلاد الروم اعتُدِىَ عليها، فصرخت قائلة: وامعتصماه!