الحجاج في كتابات الجاحظ
نقلا عن صفحة فايسبوك: دروس العربية لتلاميذ الرابعة آدابا:
إن تأثر الجاحظ بالتيار الاعتزالي طبع كتاباته بطابع حجاجي يهدف إلى الإقناع و التأثير ، و لا سيما عند تناول مسائل ذات طابع خلافي جدلي يتعمق فيها الخلاف
بين المتناظرين سواء كانت ذات طابع ديني أو فكري .
و تخضع نصوصه الحجاجية لبنية تكاد تكون ثابتة ، تقوم على عرض الأطروحة المدعومة أو المدحوضة ، و سيرورة حجاج يتم أثناءها عرض جملة من الحجج
المتنوعة ، وفق نظام مخصوص ، و بأساليب و روابط حجاجية ، فتفضي بالخصم إلى التسليم ، و تلزمه الحجة . ويختم النص الحجاجي بنتيجة ,
+) مثال من البنية الحجاجية :
* الأطروحة : << اعلم أن المصلحة في أمر ابتداء الدنيا إلى انقضاء مدتها ، امتزاج الخير بالشر>> .وهي أطروحة سيعمل الجاحظ على دعمها بالحجج ليقنع
بها من لا يدرك الحكمة من خلق الشر في العالم .
* سيرورة الحجاج :
- حجة1 :<< لو كان الشر صرفا هلك الخلق >>. حجة منطقية تنهض على افتراض نقيض الأطروحة ( الدنيا شر صرف ) وما يترتب عليها من باطل
(هلك الخلق ) . و هذا يسمى حجاجا بالخُلْف .
- الحجة2 : << أو كان الخير محضا سقطت الكلفة >>. و هي مماثلة للحجة الأولى : حجة بالخلف .
- الحجة 3 : <<كل شيء في العالم فإنما هو للإنسان >>. حجة دينية مأخوذة من قوله تعالى "هو الذي خلق لكم ما في الأرض
جميعا"
- الحجة4 : << لو استوت الأمور بطل التمييز ، وإذا لم تكن كلفة لم تكن مثوبة >> . حجة ذات طابع ديني ( الثواب و العقاب )
* النتيجة : << فلا تذهب إلى ما تريك العين و اذهب إلى ما يريك العقل >>.
الروابط الحجاجية التي اشتملت عليها هذه الفقرة تتمثل أساسا في حروف الشرط ( لو ... أو... , إذا ...) و فاء الربط التي ربطت النتيجة بسيرورة
الحجاج ربطا سببيا .
و لا يخفى علينا ما تحمله هذه الفقرة الحجاجية من طابع كلامي .فالجاحظ المعتزلي يدافع عن مبدإ هام من مبادئ المعتزلة و هو مبدأ العدل الإلهي ،
و مسؤولية الإنسان عن أفعاله . فالله خلق الخير و الشر وكرّم الإنسان بالعقل الذي هو ملكة التمييز بينهما و مناط التكليف ، و بذلك يكون للثواب و العقاب معنى .
+)مثال من البنية الجدلية :
* فإن قال قائل : <<إن الحجة لا تكون حجة حتى تعجز الخليقة >> = أطروحة الخصم التي سيعمل الجاحظ على دحضها.
* << قلنا إننا لم نزعم أن الأخبار فيحتجوا علينا بها ، و إنما زعمنا أن مجيئها حجة ... >> = بداية سيرورة الحجاج .
* و كذلك لو ادّعى رجل أن الله عزّ و جلّ أرسله فجعل حجته علينا الإخبار بما أكلنا و ادخرنا لكان قد احتج علينا >>. = النتيجة .
تقوم البنية الجدلية على المراوحة بين أقوال الخصم و ردود الجاحظ عليها ثم الانتهاء إلى النتيجة التي على الخصم التسليم بها .
+) تنويع الحجج :
لا تكون العملية الحجاجية ناجعة إلا إذا اعتمد المحاجّ حججا متنوعة للتأثير في الخصم ، و إفحامه ، و إقناعه بوجهة نظره . و إليك نماذج من أنواع
الحجج التي اعتمدها الجاحظ في بعض نصوصه الحجاجيّة.
- حجة الإحالة على الواقع : وهي أقوى الحجج . كقول الجاحظ للرد على من يقولون " إن السودان صاروا أسخياء لضعف عقولهم" :
<< و قد رأينا الصقالبة أبخل من الروم ، و الروم أبعد رؤية و أشد عقولا . و على قياس قولكم أن قد ينبغي أن تكون الصقالبة أسخى أنفسا و أسمح أكفا منهم >> .
- حجة الشاهد القولي ( شعر- قرآن – حديث ...) مثل ما أورده الجاحظ في الرد على من ينكر أنّ للطير منطقا :<< و قد قال الله عز و جل مخبرا
عن سليمان : " يا أيها الناس إنّا عُلّمنا منطق الطير" فجعل ذلك منطقا >>.
و هذا مثال آخر من الشاهد القولي أثبته الجاحظ في رسالة " مفاخرة الجواري و الغلمان" : << قال صاحب الغلمان : إن فضل الغلام على الجارية أن الجارية
إذا وُصفت بكمال الحسن قيل " كأنها غلام ، و وصيفة غلامية " قال الشاعر :
لها قد الغلام و عارضاه *** و تفتير المبتلة اللعوب .>>.
- حجة السلطة : و تكون قوية إذا كانت مأخوذة عن عالم أو حكيم أو فيلسوف ذي سلطة معرفية أو علمية ، و يحظى بالثقة و الاحترام. فالجاحظ كثيرا ما يحتج
بأقوال أستاذه إبراهيم بن سيّار النظام ، رأس المعتزلة كقوله في سياق دعوته إلى تنباع منهج الشك :<< و قال أبواسحاق : " نازعت من الملحدين الشاك و الجاحد
فوجدت الشُّكَّاكَ أبصر بجوهر الكلام من أصحاب الجحود " >>.
- حجة منطقية : و تكون بالربط بين الأسباب و نتائجها أو الربط بين المقدمات و النتائج .كقول الجاحظ في محاججة من يرون أن سخاء السودان مرهون بسخفهم
و قلة عقولهم :<< بئس ما أثنيتم على السخاء و الأثرة ، و ينبغي في هذا القياس أن يكون أوفرُ الناس عقلا و أكثرُ الناس علما أبخلَ الناس بخلا و أقلَّهم خيرا >>.
- الحجة التاريخية : فقد عاد الجاحظ إلى التاريخ للردّ على القائلين بأنّ الغرارة مقرونة بالحداثة و الحنكة موصولة بطول التجربة : <<و لولا ذلك لما ولى رسول الله
- صلى الله عليه و سلم – معاذ بن جبل اليمنَ ، و جعل له قبض الصدقات و محاسبة العمال ... و هو ابن ثماني عشرة سنة . و لا يدفع ذلك صاحب
خبر و لا حامل أثر >>. ( رسالة في نفي التشبيه )
+) الروابط الحجاجية { أساليب الحجاج}
* التعليل : و أدواته : لـِ – لأنّ – بما أن – إذ – حتى – كي ...
مثال : يقول الجاحظ معللا فضل المعرفة العقلية على المعرفة الحسية :<< و لعمري إن العيون لتخطئ ، و إن الحواس لتكذب ، و ما الحكم القاطع
إلا للذهن ، و ما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل {إذ} كان زماما على الأعضاء و عيارا على الحواس >>.
* الاستدراك : و أدواته : لكنْ – لكنَّ – غير أنّ – إلا أنّ - ...
مثال : يسرد الجاحظ جملة من الأخبار المتضاربة فيستعمل الاستدراك ليبرز تضاربها : << و قال آخرون : الأروية لا تعرف بهذا المعنى ، و{لكنه}
ليس في الأرض نمرة إلا وهي تضع ولدها و في عنقه أفعى ...>>.
مثال آخر : يقول الجاحظ في النهي عن التسرع في الحكم قبولا أو رفضا ، و الحث على ممارسة الشك في الأخبار الغريبة و العجيبة :
<< و لا يعجبني الإقرار بهذا الخبر و كذلك لا يعجبني الإنكار له و{لكن} ليكن قلبك إلى إنكاره أميل ...>> .
* الافتراض : و من أدواته : لو – إذا ...ف – هب أنّ - ....
مثال : يقول الجاحظ في سياق الردّ عل من ينكر أن يكون في امتزاج الخير بالشر حكمة :<< لو كان الشر صرفا هلك الخلق ... و لو استوت الأمور
بطل التمييز ...>> فيفترض صحة الأطروحة المضادة ( الكون شر صرف ) و ما يمكن أن ينتج عنها من باطل ( هلك الخلق ) ليفضي بالخصم إلى التسليم
بأطروحته ( الحكمة تقتضي أن يكون الكون مزيجا من الخير و الشر).
* النفي مع الإثبات و التوكيد :
مثال :<< إنا {لم} نزعم أنّ الأخبار حجة فيحتجوا علينا بها ، { إنما} زعمنا أنّ مجيئها حجة ...>> . فاستعمل النفي بـ(لم) لنفي أطروحة الخصم و إبطالها
ثُم أستعمل التوكيد بالقصر (إنما) لإثبات أطروحته .
* الاستفهام : هو من الأساليب التي يتواتر حضورها في نصوص الجاحظ الحجاجية ، وهو ذو قوة حجاجية لأنه وسيلة لإشراك الخصم في العملية الحجاجية واستمالته
برفق ، و استدراجه إلى تقديم جواب نهائي يوافق ما عليه المحاجّ . و للاستفهام معان مختلفة تفهم من السياق و منها :
- الآستنكار و الاستبعاد : << فكيف صار قلّةُ العقل هو سبب سخاء الزنج ؟ ...>> .
- الإثبات و التقرير : << ألا ترى أن فلق البحر ليس من جنس اختراع الثمار ؟...>> .
* التراكيب الشرطية بأدوات مختلفة :
- الافتراض بـ(لو) :<< لو كان ذلك لبطلت ثمرة التوكل >> .
- الافتراض بـ(متى): << و متى ذهب التخيير ذهب التمييز >>.
- التعميم بـ ( من): << من جهل اليأس جهل الأمن >>.
- الإمتناع بـ(لولا ):<< لولا استعمال المعرفة لما كان للمعرفة معنى>>.